
- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
أهمية الدبلوماسية الإقليمية لدروز سوريا

كشف اندلاع أعمال العنف الأخيرة في جنوب سوريا مجددًا عن هشاشة النظام السياسي في مرحلة ما بعد الأسد، وأبرز المخاوف العميقة لدى مجتمعات الأقليات من عجز الحكومة الحالية أو عدم رغبتها في ضمان حقوقهم وتوفير الحماية في وجه الميليشيات المسلحة.
بالنسبة للمجتمع الدرزي على وجه الخصوص، عكست اشتباكات الأسبوع الماضي حجم الاضطراب المتزايد في واقع "سوريا الجديدة"، إذ عززت التجارب السابقة للطائفة مخاوفها المبرّرة من تضافر عوامل عدّة، تشمل ضعف الدولة المركزية، وتغوّل الميليشيات، وتردد القوى الإقليمية والدولية في فرض مساءلة حقيقية. وتشكل موجة العنف الأخيرة في الساحل السوري، والمجازر التي طالت العلويين هناك، نموذجًا صارخًا لذلك. ويخشى كثير من الدروز، في الداخل والخارج، من أن تُستخدم الأقليات، وفي طليعتهم الدروز، ككبش فداء لهذا الواقع الهش، ما لم تُتخذ خطوات دبلوماسية استباقية.
تتقاطع هذه المخاوف مع بوادر الأمل التي انتشرت بعد سقوط النظام، والتي لطالما بدت بعيدة المنال. لكن الرئيس أحمد الشرع، الذي تحوّل من جهادي إلى سياسي، فشل في ترسيخ التماسك الداخلي أو اكتساب شرعية فعلية في بلد ممزق بالصراعات. وقد شهدت الأسابيع الماضية اشتباكات دموية بين مقاتلين دروز وميليشيات موالية للحكومة في صحنايا وجرمانا، تلاها احتجاجات وهجمات انتقامية، ما زاد من مخاوف الدروز من استهداف الدولة للأقليات. ويخشى كثيرون أن يعجز الشرع – أو يتقاعس – عن كبح جماح القوى الأمنية المنفلتة، المسؤولة عن عنف عشوائي في مناطق درزية كالسويداء وجرمانا وشهبا.
حافظ الدروز، وهم طائفة مهمشة تاريخيًا لكنها بارعة في المناورة السياسية، على حياد استراتيجي طوال معظم فترة النزاع. لم يكن هذا الحياد انسحابًا سلبيًا، بل خيارًا مدروسًا للبقاء. فخلال معظم مراحل الثورة السورية، رفض الدروز الانحياز الكامل لأي من الطرفين، وحرصوا على عدم الانخراط في العنف، إلا دفاعًا عن النفس. ورغم انخراط بعض القيادات، بقيت قطاعات واسعة من القيادة الدرزية حذرة، رافضة للاندماج في المؤسسات السياسية والعسكرية الجديدة. ولا يعكس هذا الموقف تعنتًا طائفيًا بقدر ما يعكس خشية من أن تنزلق البلاد من استبداد إلى تطرف يتنكر بعباءة الإصلاح، لكنه يعيد إنتاج القمع ذاته.
وترتبط هذه المقاربة بسياق تاريخي أعمق، حيث عبّرت القيادات الدرزية، خاصة في السويداء، مرارًا عن استيائها من الوضع السياسي، مع تأكيدها الدائم على التمسك بسوريا موحدة. فقد انتقد الشيخ حكمت الهجري، أحد الزعماء الروحيين الثلاثة للطائفة، علنًا نظام الأسد وخليفته، متهماً إياهما بالفشل في حماية الأقليات وفتح الباب أمام الميليشيات الأجنبية. وفي خطبة بارزة هذا العام، حذر الهجري من "طغيان جديد يرتدي عباءة الثورة"، داعيًا الشباب إلى الدفاع عن بلداتهم ورفض الانضمام إلى أي فصيل لا يضع وحدة سوريا وسيادتها في سلم أولوياته.
وقد ترجمت هذه المقاومة عمليًا، إذ رفضت ميليشيات درزية محلية نزع سلاحها أو الاندماج في قوات الشرع، متهمة هذه الأخيرة بالفساد واستهداف الأقليات. وبلغ التوتر ذروته مع الكمين الذي تعرض له مقاتلون دروز قرب صحنايا، تبعه تبادل إطلاق نار وغارات على أحياء درزية، ما زاد من المخاوف من حملة ترهيب متعمّدة.
رغم كل ذلك، تمسّك الشيخ الهجري وأنصاره بثلاثة مطالب أساسية: الحكم الذاتي المحلي، الحماية من الميليشيات الخارجية، ومقعد فعلي على طاولة إعادة الإعمار السياسي. وهي مطالب تنسجم مع المبادئ التي حددها المجتمع الدولي خلال جولات التفاوض السابقة.
انطلاقًا من هذا التقاطع، دعت القيادة الدرزية إلى دور دبلوماسي فاعل يضبط العلاقة مع دمشق ويضمن حماية الأقليات. كما عبّرت الطائفة الدرزية الأوسع عن قلقها، وسعت إلى تعزيز التواصل مع الأطراف الإقليمية. في إسرائيل، دعا قادة الدروز علنًا لحماية أقاربهم، بينما طالبت شخصيات درزية لبنانية، رغم انقساماتها، الحكومة بإعلان موقف داعم لاستقلالية الدروز في سوريا.
ونظرًا لحاجة دمشق إلى الشرعية الدولية، هناك فرص لوساطات متعددة. فالولايات المتحدة، رغم تقليص وجودها العسكري، لا تزال تحتفظ بنفوذ دبلوماسي، إلى جانب أطراف إقليمية مثل الأردن، الذي تربطه علاقات قبلية بالدروز، والإمارات التي طرحت نفسها كوسيط، وكذلك السعودية.
يمكن لهذه الأطراف المساهمة في خفض التوتر وبناء الثقة بين المركز والمجتمعات المهمشة. تشمل الأولويات نزع السلاح من المناطق الساخنة، ووقف الاعتقالات العشوائية، والتوسط بين وجهاء المجتمعات والجهات الرسمية. ويمكن أن تأتي المبادرة تحت مظلة جامعة الدول العربية، أو بتنسيق مع الأمم المتحدة، لضمان حوار محلي يعطي الأولوية للتمثيل الشامل والحكم الرشيد، مع مراعاة مخاوف النظام من أن تؤدي اللامركزية المفرطة إلى انهيار أمني.
أما الانخراط مع دمشق على هذا الأساس، فقد يفتح الباب أمام اعتراف إقليمي وأموال إعادة إعمار، بشرط تنفيذ إصلاحات ملموسة تهم الأقليات، منها تطبيق اللامركزية الإدارية، وتوفير حماية قانونية للأقليات الدينية والعرقية. هذه تفاصيل يملك السوريون وحدهم حق التفاوض حولها.
أما البديل، أي الإهمال، فكارثي. فقد أثبتت تجارب عديدة في المنطقة أن تجاهل التوترات الطائفية يؤدي إلى تفاقمها. وترك الدروز لمصيرهم لن يخلق فقط أزمة إنسانية في الجنوب، بل سيفتح المجال لتوغل ميليشيات إيرانية أو فلول داعش تحت غطاء الحماية. وتفيد تقارير ميدانية بمحاولات من جماعات موالية لطهران التسلل إلى الجنوب السوري، ما ينذر بمزيد من زعزعة الاستقرار، وتهديد مباشر للحدود الشمالية لإسرائيل.
من هنا، فإن التصدي لهذه التحديات ضرورة عاجلة. فبينما تقف سوريا عند مفترق جديد، فإن القدرة على تجاوز التوترات بين دمشق والمناطق الأخرى، وعلى رأسها السويداء، ستكون مفتاحًا لمستقبل مختلف. والأهم، أن بناء إطار فعّال لعلاقة واضحة بين المركز والمجتمع الدرزي، قد يشكل سابقة إيجابية لباقي المكونات، ويؤكد أن الدبلوماسية، لا القوة، هي السبيل إلى علاقة صحية بين الدولة ومواطنيها.
ولتحقيق هذا البديل، لا بد من نهج إقليمي منسق، يملي المسؤولية الأخلاقية، ويمليها المنطق الجيوسياسي. فكيف تُحل الأزمة اليوم، سيحدد شكل سوريا في الغد – ويفتح الباب أمام كل المعنيين، من الإقليم أو خارجه، ليلعبوا دورًا في بناء سوريا مستقرة.